السؤال :
وردت علي شبهة ، وهي أن القرآن من عند الله ، لكنه قد استرقته الجن من السماء ، ثم أوحته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وغيرت فيه أشياء لا تؤثر في مظهره ، لكن تغير معناه . أعلم أنها شبهة سخيفة ، لكنها لا تريد الذهاب عن رأسي .
هل يمكن هذا عقلا ، أن يُضل الله الناس بإرادته وقصده ، ألا يكون هذا طعنا فيه ؟
الجواب :
الحمد لله
الشبهة في اللغة العربية تعني الإشكال والالتباس ، بحيث يختلط الأمر على صاحب الشبهة فلا يدري الكشف والتوجيه . " لسان العرب " (13/505) ، " تاج العروس " (36/413) .
وهذا شأن القضايا التي تشكل على العقل الموضوعي حقيقة ، وتحمل في طياتها بوادر التعارض أو تكتسي لباس الغموض والخفاء ، ويكفي أن تعرض القضية على بعض العقلاء لتقدير إشكالها وحاجتها إلى الجواب .
أما أن تطلق " الشبهة " على خواطر النفس ، ووساوس الشيطان ، فهذا من المزالق التي نربأ بالمسلمين أن يقعوا في حبالها ؛ لأن الخواطر والهواجس التي تتحدث بها النفس الأمارة كثيرة ، فإذا ظن صاحبها أنها شبهات حقيقية غرق في أوهامها ، ولم يكد يتمكن من الخروج منها ، وظن نفسه في أمواج متلاطمة من سواد القلب وشبهات العقل ، وحقيقة الأمر أنه في وحل ضحل من الوهم والسراب .
هذا ما يمكننا أن نصف به سؤالك أخانا السائل ؛ فالجن لا تتمكن إلا من استراق الكلمة والكلمتين ، أما أن تسترق كتابا كاملا فهذا ليس بالأمر الممكن ، وإذا كنت تقر بأن القرآن كلام الله تعالى ، فهذا يعني أنك تؤمن بأنه سبحانه القوي القادر الذي خلق الإنس والجن جميعا ، فلا يتمكن الجن من التصرف في خلقه بما يعارض حكمته ومشيئته عز وجل . قال تعالى في سورة الجن : ( وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا . وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ) الآيات/8-9.
وهو سبحانه الذي قضى بحفظ القرآن وعصمته من التحريف والزيادة أو النقصان ، فقال عز وجل : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحجر/9 ، فكيف يقبل العقل أن يكون مثل هذا الكلام من تحريف الجن .
وهل هذه الوساوس إلا أعظم السب لرب العالمين ، ونسبة النقص والعيب إليه ، في قدرته ، وحكمته ، وشريعته ؟
وكيف ستوحي الجن إلى الرسول الكريم قولهم : ( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) الشعراء/193.
وقد كانت هذه الوساوس نزرا يسيرا مما أفاضت به عقول المشركين وقلوبهم ، قال تعالى : ( وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ . وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ . إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ . فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وما جاء به الرسول مناقض لمراد الشياطين غاية المناقضة ، فلم يحدث في الأرض أمر أعظم مناقضة لمراد الشياطين من إرسال محمد ، ونزول القرآن عليه ، فيمتنع أن تفعل الشياطين ما لا يريدون إلا نقيضه .
وهم - أيضا - ممنوعون من ذلك ، بحيث لا يصلح لهم ذلك ، ولا يتأتى منهم ؛ كما أن الساحر لا ينبغي له أن يكون نبيا ، والمعروف بالكذب والفجور لا ينبغي له - مع ذلك - أن يكون نبيا، ولا أن يكون حاكما ، ولا شاهدا ، ولا مفتيا ; إذ الكذب والفجور يناقض مقصود الحكم والشهادة والفتيا ؛ فكذلك ما في طبع الشياطين من إرادة الكذب والفجور يناقض أن تتنزل بهذا الكلام الذي هو في غاية الصدق والعدل، لم يشتمل على كذبة واحدة ولا ظلم لأحد " .
انتهى من " الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (5/ 349) .
وقال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله :
" فأثبت تعالى أن القرآن كلامه وتنزيله , وأن جبريل عليه السلام رسول منه ، مبلغ كلامه إلى الرسول البشري محمد صلى الله عليه وسلم , وهو مبلغ له إلى الناس . ثم نفى ما افتراه المشركون عليه فقال : ( وما تنزلت به الشياطين ) وقرر انتفاء ذلك بثلاثة أمور :
الأول : بعد الشياطين وأعمالهم عن القرآن , وبعده وبعد مقاصده منهم , فقال تعالى : ( وما ينبغي لهم )؛ لأن الشياطين مقاصدها الفساد والكفر والمعاصي والبغي والعتو والتمرد وغير ذلك من القبائح , والقرآن آت بصلاح الدنيا والآخرة , آمر بأصول الإيمان وشرائعه , مقرر لها مرغب فيها , زاجر عن الكفر والمعاصي ، ذام لها ، متوعد عليها , آمر بالمعروف ناه عن المنكر , ما من خير آجل ولا عاجل إلا وفيه الدلالة عليه والدعوة إليه والبيان له , وما من شر عاجل ولا آجل إلا وفيه النهي عنه والتحذير منه , فأين هذا من مقاصد الشياطين ؟!
الثاني : عجزهم عنه ، فقال تعالى : ( وما يستطيعون ) أي : لو انبغى لهم ما استطاعوه ؛ لأنه كلام رب العالمين ، ليس يشبه كلام شيء من المخلوقين , وليس في وسعهم الإتيان به ، ولا بسورة من مثله : ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) الإسراء/ 88 .
الثالث : عزلهم عن السمع ، وطردهم عن مقاعده التي كانوا يقعدون من السماء قبل نزول القرآن , فقال تعالى : ( إنهم عن السمع لمعزولون ) فبين تعالى - مع كونه لا ينبغي لهم - أنه لو انبغى ما استطاعوا الإتيان به أو بمثله ، لا من عند أنفسهم ، ولا نقلا عن غيرهم من الملائكة , نفى عنهم الأول بعدم الاستطاعة ، والثاني بعزلهم عن السمع وطردهم منه , قال الله عز وجل : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) الحجر/9 ، إلى قوله : ( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ) الحجر/ 16-18 ، وقال تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (
دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) الصافات/ 6-10 ، وقال تعالى : ( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ) الملك/ 5 ،... وفي صحيح البخاري قالت عائشة رضي الله عنها : " سأل ناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال : ( إنهم ليسوا بشيء ، قالوا : يا رسول الله إنهم يحدثون بالشيء يكون حقا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تلك الكلمة من الحق يحفظها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاج ، فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة ) " .
انتهى باختصار من " معارج القبول بشرح سلم الوصول " (2/ 568-571) .
لذلك لا نرى الخوض في تفصيل الجواب عن هذه الهواجس التي ترد عليك ، بل ننصحك بالاجتهاد في الانصراف عنها ، وأول خطوة في سبيل تحقيق ذلك : أن تعود عقلك وقلبك أخذ الأمور على ظاهر ما يبدو منها بحكم العقل والحواس ، فأنت حين ترى كتابا لمؤلف عالمي معروف مثلا ، من طباعة إحدى دور النشر المشهورة أيضا ، فلا تتردد في نسبة الكتاب لصاحبه ، والقراءة فيه للانتفاع به ، فإذا سمحت لخواطر النفس وهواجس الوسواس بدأت تتشكك في كل شيء ، لعل دار النشر تكذب ، أو لعل المؤلف شخصية وهمية ، وهكذا تفقد مسلمات العقول التي تتعامل بها في جميع شؤون الحياة .
والعلاج يبدأ من سهولة التصورات وبساطة التصديقات ، والثقة بتلقي أدوات المعرفة التي وهبنا الله إياها ، وعدم التعمق إلا في القضايا العلمية التي يطرحها العلماء والمفكرون والمثقفون للبحث والقراءة والمناقشة .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ : مَنْ خَلَقَ كَذَا ، مَنْ خَلَقَ كَذَا ، حَتَّى يَقُولَ : مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ ) رواه البخاري (3276) ، ومسلم (134) .
يقول ابن القيم رحمه الله :
" العلم حين تخالط القلوب بشاشته ، فإنه يستخرج منها زبد الشبهات الباطلة ، فيطفو على وجه القلب ، كما يستخرج السيل من الوادي زبدا يعلو فوق الماء ، وأخبر سبحانه أنه رابٍ ، يطفو ويعلو على الماء ، لا يستقر في أرض الوادي ، كذلك الشبهات الباطلة إذا أخرجها العلم ربت فوق القلوب وطفت ، فلا تستقر فيه ، بل تجفى وترمى ، فيستقر في القلب ما ينفع صاحبه والناسَ من الهدى ودين الحق ، كما يستقر في الوادي الماء الصافي ، ويذهب الزبد جفاء " انتهى من " مفتاح دار السعادة " (1/61) .
فالنصيحة لك أن تشتغل بالعمل الصالح والعلم النافع ، فتبحث عن باب خير يفتح الله عليك فيه ، وتجد في نفسك إقبالا عليه ، وإخلاصا وحبا له ، فتستغرق فيه أيامك وأوقاتك ، وتجتنب عوائق الطريق التي تقطع على المرء نجاحه ، وتذكر أننا في ساعة الحساب بين يدي رب العباد ستغيب عنا كل هذه الخواطر والهواجس ، وستبقى المقاصد العالية ، والأسئلة الكبيرة التي خلقنا لأجلها وسيسألنا عنها ، عن أركان الإسلام وأركان الإيمان ، وعن ما قدمناه من عمل صالح وخير للناس أجمعين .
وللمزيد من الاطلاع ننصح بمراجعة الفتوى رقم : (173268) ، ورقم (111931) .
نسأل الله لنا ولك العفو والعافية .