بعد أن أنهى النبي صلى الله عليه وسلم اللقاء المبارك مع وفد المدينة المنورة في بيعة العقبة الأولى ، ورجع الوفد إلى ديارهم وأهليهم، بعث صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير سفيراً له في المدينة يعلم أهلها الإسلام ، ويدعوا من لم يدخل في هذا الدين إلى الدخول فيه .
وكانت بعثته صلى الله عليه وسلم مصعباً أمراً غاية في الأهمية ، إذ سرعان ما آتت دعوة مصعب رضي الله عنها ثمارها ، فلم يمض إلا عام واحد حتى دخل أكثر أهل المدينة في الإسلام ، وهنا شعر المسلمون الجدد بمعاناة إخوانهم في مكة ، وهم في مدينتهم سادة ممتنعون عن الأذى والضيم ، ومع ذلك يؤذى رسولهم ، ويلاحق في جبال مكة وشعابها، ويهان أصحابه ، فرحل إلى مكة سبعون رجلا من أهل المدينة ، حتى قدموا في موسم الحج ، وواعدوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يلتقوا به في شعب العقبة ، ولندع أحد النقباء يحدثنا عن هذه البيعة المباركة ، وما وقع فيها من مواقف عظيمة ، حقها أن تكتب بماء الذهب .
يقول كعب بن مالك رضي الله عنه ، فيما رواه الإمام أحمد في مسنده وحسنه الشيخ الأرناؤوط : ( فنمنا تلك الليلة - الليلة التي واعدوا فيها النبي ، وهي الليلة الثانية من أيام التشريق - مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل ، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل مستخفين تسلل القطا - طائر - حتى اجتمعنا في الشعب - الطريق في الجبل - عند العقبة ونحن سبعون رجلا ، ومعنا امرأتان من نسائهم نسيبة بنت كعب أم عمارة ، و أسماء بنت عمرو بن عدي بن ثابت ، قال : فاجتمعنا بالشِّعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه يومئذ عمه العباس بن عبد المطلب - وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له - فلما جلسنا كان العباس بن عبد المطلب أول متكلم ، فقال : يا معشر الخزرج : إن محمداً منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه ، وهو في عزِّ من قومه ، ومنعة في بلده ،قال : فقلنا قد سمعنا ما قلت ، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ، ولربك ما أحببت ، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلا ، ودعا إلى الله عز وجل ، ورغب في الإسلام ، وقال : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم ، وأبناءكم ، فأخذ البراء بن معرور بيده ،ثم قال : نعم ، والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا - جمع إزار ويكنى به عن المرأة - ، فبايعنا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنحن أهل الحروب ، وأهل الحَلَقَة - السلاح - ورثناها كابراً عن كابر ، فاعترض قول البراء وهو يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الهيثم بن التيهان حليف بني عبد الأشهل ، فقال : يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال - يعني اليهود - حبالاً وإنا قاطعوها ، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله ، أن ترجع إلى قومك وتدعنا ، قال : فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : بل الدم الدم ، والهدم الهدم ، أنا منكم ، وأنتم مني ، أحارب من حاربتم ، وأسالم من سالمتم ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم ، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً منهم تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس ، ... وكان أول من أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور ، ثم تتابع القوم - يعني على المبايعة - ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارفعوا إلى رحالكم ، قال : فقال له العباس بن عبادة بن نضلة : والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم أؤمر بذلك ، فرجعنا فنمنا حتى أصبحنا ، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش - أي عظماؤها - حتى جاؤنا في منازلنا ، فقالوا يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا ، والله إنه ما من العرب أحد أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينه منكم ، فانبعث من هنالك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه وقد صدقوا لم يعلموا ما كان منا ) .
هذه هي بيعة العقبة وتلك هي أحداثها ، تكاد تتفجر بأمثلة الشجاعة والبطولة ، ولو ذهبنا نتأمل بعض المواقف فيها لأصابنا العجب من عظمتها وجلالتها ، ولنبدأ بموقف النبي صلى الله عليه وسلم ، وكيف عرض دعوته بكلمات موجزة صافية صريحة من غير لبس أو غموض ، ومن غير أن يقدم على قبولها أي عرض دنيوي ، فلم يعدهم بملك أو سلطان ، أو حتى مال يخفف به عنهم ضخامة الحمل الذي سيحملونه ، بل ربطهم بالآخرة عندما سألوه ما لنا ؟ قال :الجنة - كما في رواية ابن إسحاق -، حتى يتحقق فيهم كمال التجرد في قبول هذه الدعوة ، وتحمل تبعاتها ، وفهم الصحابة رضوان الله عليهم هذا الدرس جيداً ، وأن في قبولهم هذه الدعوة معاداة العرب والعجم ، وسخط الأحمر والأسود من الناس ، وقطع علائقهم ، وعلاقاتهم ، ومع ذلك أقدموا - وهنا تتجلى البطولة في الثبات على المبادئ - رغم عظم الضريبة التي سيدفعونها - ، فقبلوا هذه البيعة لله عز وجل صافية نقية، فلله درها من بيعة ، ولله درهم من رجال .
موقع مقالات اسلام ويب