عباد الله:
بشراكم جميعًا بشهر الصيام، أهلَّه الله علينا وعليكم بالأمن والإيمان، والسَّلامة والإسلام، وجعله الله علينا وعلى المسلمين شهر بركة وخير ومغفرة للسيئات ورفعة في الدَّرجات، ولقد كان نبيكم - صلَّى الله عليه وسلَّم - يبشِّر أصحابه بقدوم رمضان؛ يقول أبو هريرة - رضي الله عنه - كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يبشر أصحابه، ويقول: ((قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلُّ فيه الشياطين، وفيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرِمَ خيرها فقد حُرِمَ))؛ أخرجه أحمد والنَّسائي، يقول ابن رجب - رحمه الله -: يقول بعضُ العلماء: هذا الحديثُ أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضًا بشهر رمضان. اهـ.
مَرْحَبًا أَهْلاً وَسَهْلاً بِالصِّيَامِ يَا حَبِيبًا زَارَنَا فِي كُلِّ عَامْ قَدْ لَقِينَاكَ بِحُبٍّ مُفْعَمٍ كُلُّ حُبٍّ فِي سِوَى الْمَوْلَى حَرَامْ فَاقْبَلِ اللَّهُمَّ رَبِّي صَوْمَنَا ثُمَّ زِدْنَا مِنْ عَطَايَاكَ الْجِسَامْ لاَ تُعَاقِبْنَا فَقَدْ عَاقَبَنَا قَلَقٌ أَسْهَرَنَا جُنْحَ الظَّلاَمْ |
عباد الله:
رمضان موسم عظيم للمحاسبة، وميدان فسيح للمنافسة، تصفو فيه النُّفوس من دواخلها، وتقتربُ فيه القلوب من خالقها، تُفتح فيه أبوابُ الجنة، وتغلق أبواب النار، وتُصَفَّد الشياطين، وتكثر دواعي الخير وأسبابُ المثوبة، فيأيها المتقون الصائمون، فَتِّشوا عن المحتاجين من أقربائكم، والمساكين من جيرانكم، والغرباء من إخوانكم، أشركوهم معكم في رزق ربِّكم، ولا تنسوا برَّهم وإسعادهم؛ يقول الشافعي - رحمه الله -: أحب للصائم الزيادة في الجودِ في شهر رمضان؛ اقتداء برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغُل كثير منهم فيه بالعبادة عن مكاسبهم. اهـ.
عباد الله:
رمضان فرصة للتنويع بين العبادات، واستذكار العديد من الأذكار الواردة عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والدَّعوات، وما على راجي الهداية، وطالب الرشد والسَّعادة إلا أن يعقد العزم على طَرْقِ عبادات لم يعتد على أدائها في رمضانات سابقة.
أيُّها المسلمون:
اعتاد بعضنا في رمضان على أداء عبادات مُعيَّنة، كالصيام والقيام وقراءة القرآن، وهناك عبادات أخرى الأجر؛ إمَّا لمكانتها، وإمَّا لهجر الناس لها، وإتيان تلك الطاعات في مثل هذه الأيام إحياءٌ لها، وتذكير للناس بتنوُّع العبادات وتعدُّدها لمن أراد الزُّلْفى من الله - سبحانه - ومن تلك العبادات: عيادة المرضى، وزيارة المقابر، والصَّلاة على الجنائز، والعبادات المتعدية، كإطعام الطعام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم الناس الخير.
أيُّها المسلمون:
في شهر رمضان يكثُر المؤدُّون للصلاة، وبخاصة صلاة النَّوافل، كالرواتب والتراويح والقيام، وهذا الإقبال فُرصة للتنويع بين الأدعية والآثار والصِّفات الواردة في الصلاة، فهناك العديد من أدعية الاستفتاح، وهناك أنواع للتشهدات، هذا فضلاً عن الأدعية الواردة في الرُّكوع والسجود وختام الصلاة.
ومن اطَّلع - على سبيل المثال - على كتاب "حصن المسلم" - وهو كتاب معروف ومتداول - وَجَدَ مصداق ما ذكر آنفًا؛ يقول العلامة ابن عثيمين - رحمه الله تعالى -: "العبادات الواردة على وجوه متنوعة تُفعل مَرَّة على وجه، ومرة على الوجه الآخر، فهنا الرفع ورد إلى حذو المنكبين، وورد إلى فروع الأذنين، وكلٌّ سُنَّة، والأفضل أن تفعل هذا مرة وهذا مرة؛ ليتحقق فعل السنة على الوجهين، ولبقاء السنة حيَّة؛ لأنك لو أخذت بوجه وتركت الآخر، مات الوجه الآخر، فلا يُمكن أن تبقى السنة حية إلاَّ إذا كنا نعمل بهذا مرة وبهذا مرة، ولأن الإنسان إذا عمل بهذا مرة وبهذا مرة، صار قلبه حاضرًا عند أداء السنة بخلاف ما إذا اعتاد الشيء دائمًا، فإنه يكون فاعلاً له كفعل الآلة عادة، وهذا الشيء مشاهد، ولهذا من لزم الاستفتاح بقوله: "سبحانك الله وبحمدك" دائمًا تجده مِنْ أول تكبير يشرع في قول: "سبحانك الله وبحمدك" من غير شعور؛ لأنَّه اعتاد ذلك، لكن لو كان يقول هذا مرة والثاني مرة، صار منتبهًا، ففي فعل العبادات الواردة على وجوه متنوعة فوائد:
1- اتِّباع السنة.
2- إحياء السنة.
3- حضور القلب." اهـ، رحمه الله رحمة واسعة.
اللهم تقبَّل صيامنا وقيامنا وسائر أعمالنا يا رب العالمين.
الخطبة الثانية
عباد الله:
يقول الحسن البصري - رحمه الله -: "إنَّ الله جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه، يَسْتَبِقُون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلَّف آخرون فخابوا، فالعَجَبُ من الضاحك اللاَّعب في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون". اهـ.
أيُّها المسلمون:
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا نخسر رمضان؟! لماذا يَمُرُّ علينا، ولا نتزود منه بالتقوى؟! لماذا يدخل ويخرج ولا نقاوم فيه الهوى؟! ألم نعلم مزاياه وندرك فضائله؟! ألم نعلم أنَّه شهر التوبة والمغفرة ومحو السيِّئات؟! ألم ندرك أنَّه شهر العتق من النار وموسم الخيرات؟! ألم نعلم أنَّ أوله شهر رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار؟! ألم نعلم أن فيه ليلة خير من ألف شهر، مَنْ حُرِمَ خيرها فقد حُرِمَ؟! فما بالنا - عبادَ الله - ترغم منا الأنوف، ونخسر ولا نستفيد؟! ما بالنا نُصِرُّ على الإضاعة والتقصير والتفريط؟!
أيها المؤمنون:
قارب الثلث الأول من رمضان على الرحيل، مضى الثلث بما أودعناه من خير أو شر، ولئن كنَّا فرطنا فيه وقصرنا، فإنَّ ما بَقِيَ أكثر مما فات، بقيت عشر المغفرة ثم عشر العتق، بقيت ليلة القدر، وليلة توفية الأجر، فلْنُرِ اللهَ من أنفسنا خيرًا، والله اللهَ أنْ يتكرر شريط التهاون والتسويف، أو تستمر دواعي الكسل والتفريط، فلقيا الشهر مرة أخرى غير مؤكدة، ورحيل الإنسان منتظر في أية لحظة.
مَنْ يُرِدْ تِلْكَ الْجِنَانَ فَلْيَدَعْ عَنْهُ التَّوَانِ وَلْيَقُمْ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْ لِ إِلَى نُورِ الْقُرَانِ وَلْيَصِلْ صَوْمًا بِصَوْمٍ إِنَّ هَذَا الْعَيْشَ فَانِ إِنَّمَا الْعَيْشُ جِوَارَ الْ لَهِ فِي دَارِ الْأَمَانِ |
عباد الله:
صلوا على مَن أمركم الله بالصلاة والسلام عليه.